صراحة نيوز – محمد جمعه الخضير
القرارات، مهما بلغت من القوة والحزم، تبقى عاجزة عن محو فكرةٍ متجذّرة أو تجميد حركةٍ سياسية نشأت في ظروف سياسية واجتماعية مضطربة، واستندت نواة تكوينها إلى روافع تاريخية ذات جذور عقائدية عميقة، انبثق منها حراكٌ أتى كاستجابة حتمية لسؤال الذات بعد الفراغ الكبير الذي خلّفته اتفاقية لوزان، ليتهيأ لها الطريق والحجة إلى حواضنها الأولى وسط الدهماء.
فهي ليست كما يعتقد البعض مجرّد تفاعل آني أو مرحلي، بل هي حالة ناتجة عن تكوينٍ أممي تشكّل في سياق الهوية العقائدية التي حافظت على حضورها النشط في ذاكرة الناس العطشى لما كانت تمثله في بواكير نبتها.
تبلور هذا التكوين في إطارٍ لا يتعدى كونه حرفًا من كتابٍ تراكمت صفحاته بما أبدعت فيه الذاكرة الجمعية لعموم الناس، هؤلاء الناس وما يديرهم من السلطة، لم يُفرز حراكهم إطارًا آخر قادرًا على امتلاك حقائق النشأة التي تمكّنه من مواجهة السردية التاريخية العقائدية ذات الجناحين الفكري والسلوكي. هذه السردية تحدد بوصلة الغاية التي تلتقي كضرورة في التغيير، في بعدٍ مصلحي متحررٍ من ذاتية الفرد، متجهًا نحو ذات المجتمع، بل الأمة.
هذا التحرك يعتمد على الفهم والاجتهاد في فلسفة تكوين الهوية، التي لن تنبض بالحياة دون مشروع سياسي يمثّل الغاية الكبرى التي تلتقي فيها روافد الطيف المتشكّل من مخاضاتٍ تحمل في جوهرها شرعية الأسباب والأهداف، وهي أهداف تتناقض مع واقع البيئات التي تنمو فيها أو حتى التي تعاديها.
ومن المثير أن البعض يرى في بعض القرارات الرسمية نهايةً للحركة أو انتصارًا للسلطة، بينما الحقيقة لا تتجاوز كونها عملية “تقليم” مؤقتة، قد تؤدي في محصّلتها النهائية إلى ولادة أكثر صلابة، نتيجة التكيّف الواعي مع ما تفرضه المؤثرات السطحية من تحديات. كما ستؤدي أيضًا إلى إعادة بناء أكثر مناعةً وقدرةً على التعامل مع التبعات الأخيرة وارتداداتها، مهما بلغت قوتها، إذ ستبقى في القشور ولن تمتلك مفاتيح الحركة الفاعلة في أعماق المجتمع.
لا سيما إذا كان المجتمع يحمل ثنائيةً يكون أحد أطرافها الإطار العقائدي، حاملًا لمفاهيم لا تلتقي في مداها البعيد مع واقع الأرض التي تنشط عليها، ويشاطرهم جزء من الطرف الآخر ذات القناعة في مسبباتٍ ذات شرعية فردية تارة، وعابرة للحدود تارة أخرى، تجمعها وعاءٌ عقائدي يمتاز بإذابة كل الاختلافات في مساحة إنكار الذات لتحقيق الغاية الكبرى.
ويعزز كل ذلك النزيف الحاد في القواعد التاريخية للسلطة، والذي تجلّى في تصاعد “الأصوات الاحتجاجية”، التي لم تُقرأ جيدًا من قبل أصحاب القرار الذين تعاملوا مع الظواهر بردود فعل لم تمسّ جوهر دوافع المشاركة السياسية، بل كانت في أبعادها وقودًا لتفعيل الحركة لدى حواضنها. بالإضافة إلى كونها إجراءات تخلو من روح مقاومة الواقع، وصياغة تصورات لعلاقة الفرد بالسلطة ضمن مساحة يلتقي فيها الجميع، عوضًا عن النهج القائم على التدوير وحصر النفوذ والثروة في نمط ذي نزعة وراثية.
وفي رأيي، ستُثبت الأيام المقبلة أن حقائق الواقع ستُفرغ ما يتهيأ للبعض أنه أُنجز في مواسم حصاد الإرادة العامة، إذا كُتب لها أن تُسجل إقرارها بنزاهة، وهو ما قد يستبعده البعض نتيجة فقر التجربة وصُنّاعها، وغياب مشروع سياسي ذي قيم وسياسات تجمع الجميع في مساحة مشتركة.
تصبح هنا المواجهة بين مشروعين: أحدهما مؤسس على عقيدة وفكرة وهوية، والآخر يحاول أن يتشكّل من فراغ لا يملكه إلا الطموح الفردي والتربّح السريع. وبهذا، تبدو المحصلة محسومة، ليس لصالح من يملك أدوات السلطة، بل لمن يمتلك العمق في الانتماء والتجذّر في الوعي.
ونجد في تجربة ردود الفعل، ما أفرزته من نخبٍ لا تعبّر في كثير من الأحيان إلا عن فراغٍ كبير، رغم محاولات حقنه بالكثير من سبل الحياة. إلا أن الفراغ ظلّ الأصدق في دلالته على فقر العقليات التي أتى بعضها من أبواب التربّح والحسابات الوثنية إلى مواقع فقدت قيمتها من سطحية إدارتها للواقع السياسي.
والأيام القادمة كفيلة بإثبات أن واقع الحراك السياسي للمجتمعات لا يُختزل بقرار.