صراحة نيوز ـ يُردد الملايين من الناس أغنية السيدة فيروز “يا بياع العنب والعنبيّة”، كواحدة من التهويدات التي تسكن ذاكرة الطفولة، دون أن يدركوا أن خلف كلماتها البسيطة مأساة إنسانية وقعت في مدينة معلولا السورية، المجبولة بالألم والإبداع والتراث العريق.
القصة تعود إلى عقود مضت، عندما وقعت حادثة اختطاف مؤلمة لطفلة في العاشرة من عمرها، خُطفت من منزلها بينما كانت أسرتها منشغلة بقطف المشمش والخوخ من الوديان البعيدة. داهمت مجموعة من البدو منازل المدينة، فوجدوا الطفلة وحيدة، واختطفوها ونقلوها إلى إحدى القبائل البدوية الرحل. لم تُفلح محاولات عائلتها في العثور عليها، وبقيت لسنوات مصيرًا مجهولًا.
مرت السنوات، وبينما كان أحد رجال معلولا، من منطقة جبل الحلو، يبيع التين والعنب في ديار تلك القبيلة، مرت لحظة مصيرية لا تُنسى. فقد تعرفت الطفلة المختطفة – التي كبرت وأصبحت أماً – على بائع العنب، لكنها خشيت أن تكشف عن هويتها علناً. فارتجلت أبياتاً باللهجة المعلولية الآرامية والعربية، غنتها من نافذة بيتها لتوصِل رسالة مشفّرة إلى الرجل، علّه يتعرف عليها وينقل قصتها.
تقول كلماتها الأصلية:
“هيو هيو يالبني يالمزبن عنبي
مليه لبي ملي لمينغبوني العربي
بايثح كم الكليساحوني شموسا عيسى
بقرتنا حمرا نفيسة وكلبنا اسلك سلوكي
الله ينام يالله ينام لا دبحلو طير الحمام…”
وترجمتها:
“يا بياع العنب والعنبيّة، قول لأبي وقول لأمي، خطفوني العرب (البدو)، بيتنا بجانب الكنيسة، وأخي شماس اسمه عيسى، بقرتنا حمراء سمينة، وكلبنا سلوقي نحيف…”
فهم البائع مغزى الرسالة وتعرف على الفتاة، فعاد إلى معلولا حاملاً البشرى لأهلها بأنها لا تزال حية، وذكر لهم مكان وجودها. غير أن الأمل لم يكتمل، إذ كانت القبيلة قد ارتحلت إلى وجهة مجهولة قبل وصول أهلها. بقيت الحسرة في قلب العائلة، لكن الأغنية التي أنقذت الفتاة بقيت خالدة.
هذه الكلمات التي ولدت من ألم ومعاناة، وصلت لاحقاً إلى الأخوين رحباني، اللذين أعادا صياغتها شعريًا، وغنتها السيدة فيروز بصوتها العذب، في واحدة من أشهر أغانيها:
“يا بياع العنب والعنبيّة، قولوا لأمي وقولوا لأبي، خطفوني الغجر من تحت خيمة مجدلَيّة…”
الراوي لهذه القصة هو الأستاذ جورج رزق الله، أحد أساتذة اللغة الآرامية من مدينة معلولا، والذي قام بتوثيق الحادثة ضمن مشروع توثيق بصري عام 2014.
ورغم رحيل الفتاة، بقيت الأغنية، شاهدة على مأساة ومقاومة، تُرددها الأمهات كتهويدة مقدسة قبل النوم، وتحمل في طياتها قصة مدينة، وطفلة، وثقافة لا تموت.